حركة النهضة إلى حدود 2011

 



حركة النهضة إلى حدود 2011

 

 

تتلخص عوامل ظهور الحركات الإسلامية وانتشارها الواسع في المجتمعات الإسلامية في أسباب خارجية كالاستعمار الخارجي وإلغاء الخلافة سنة 1924، وأخرى داخلية كقيام الدولة القطرية وانتهاج أنظمة ما بعد الاستقلال توجهات علمانية. وقد "انبثقت الحركة الإسلامية في تونس انطلاقا من خصوصيات المعطيات التاريخية وعلاقة السياسي بالديني، والصراع التاريخي بين السلطة التونسية الجديدة والمؤسسة الدينية الزيتونية، وقوة تأثير الإيديولوجية البورقيبية التحديثية على نطاق المجتمع."([1])  

        إن تحالف المؤسسة الدينية مع الحركة اليوسفية كان أحد أسباب الصدام بين السلطة السياسية والمؤسسة الدينية التقليدية، فالقرارات التي اتخذها بورقيبة نتيجة هذا الصدام من تصفية الأحباس، وإصدار مجلة الأحوال الشخصية وتوحيد القضاء، وانتهاج سياسة تعليمية قوامها العلمانية، بالإضافة إلى تشكيكه في جدوى الفروض الدينية، كانت كلها عوامل خصبة لنشوء معارضة دينية حادة على مقاس التغييرات الجذرية والسريعة التي شهدها المجتمع تجلت في انتفاضة القيروان في 17 جانفي 1961.  ثم جاءت سنة 1969 التي شهدت فيها تونس أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية عامة في نهاية تجربة "الاشتراكية الدستورية" (1962-1969) لتعجل بولادة الحركة الإسلامية. تكونت في ذلك العام جمعية المحافظة على القرآن الكريم القانونية بقيادة الشيخ الحبيب المستاوي، كما شهدت سنة 1969 عودة الشيخ راشد الغنوشي الذي التقى بعبد الفتاح مورو وحميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي ونشطوا في جمعية المحافظة على القرآن الكريم.([2])   

        لما انعقد المؤتمر الأول والأخير لجمعية المحافظة على القرآن الكريم سنة 1970 تم إقحام الجزء الأكبر من التيار الإسلامي الصاعد بقوة في الجمعية القانونية ووقع فرض توجه جديد فيها، بعد صراع بين الشيوخ الزيتونيين التقليديين وبين رموز الشباب الإسلامي، أفضى إحكام قبضة هؤلاء الأخيرين على الجمعية إلى فتح أبواب المساجد أمام "دعاة" الحركة السياسية الدينية فتحولت الخطب إلى خطابات سياسية معارضة للنظام الاجتماعي القائم وناقدة لقيمه الأخلاقية والحضارية في سياق رفض منهجي ومطلق للحضارة الغربية ولفلسفتها.([3])   

        بدأت التجربة التنظيمية الأولى للحركة الإسلامية سنة 1972 مع تأسيس "الجماعة الإسلامية" على إثر انعقاد اجتماع الأربعين الذي كان بمثابة المؤتمر التأسيسي الذي انبثقت عنه قيادة ضمت كلا من راشد الغنوشي أميرا للجماعة، وأحميدة النيفر نائبا له، وصالح  كركر مساعدا لنائب الأمير، وكانت بداية نشاط المجموعة منحصرة في دروس وعظية على شاكلة جماعة التبليغ الباكستانية وسرعان ما تطور إلى عمل مهيكل تحيط به السرية مستفيدين في ذلك من منهاج الإخوان وتجربتهم.([4])  

        كانت الجماعة الإسلامية في البداية تدعو إلى تطبيق الشريعة من خلال تنفيذ أحكام الله وإقامة الحدود فهي لا تؤمن بالديمقراطية وتتبنى مبدأي الشمولية والحاكمية وتتخذ موقف سلبي من مسألة حقوق المرأة حيث كانت ترفض الاختلاط بين الجنسين وتعارض تعليم وعمل المرأة، وهي في العموم تعارض أحكام مجلة الأحوال الشخصية.([5]) أما بالنسبة لأسلوب العمل فتمثل "السرية" أسلوب عمل التنظيمات الإخوانية([6])، وهي ما يميزها عن الأحزاب السياسية العلنية التي تعتبر "جمع من الأفراد المتحدين والذين يعملون بمختلف الوسائل الديمقراطية للفوز بالحكم أو المشاركة فيه بقصد تنفيذ وتحقيق برامج سياسية محددة")[7])، ولها شروطها الأساسية في التكوين المتمثلة في البرنامج السياسي والالتزام بالديمقراطية في أساليب العمل والسعي إلى الوصول إلى السلطة،  كما يمثل الموقف من الدولة والمجتمع القائم على رفض الدولة الحديثة الديمقراطية والتعددية، الذي تتبناه الحركات الإسلامية أحد أبرز إشكالات الحركات الإسلامية من حيث أنها كيانات تسعى للوصول إلى السلطة، إذ يميزها عن الأحزاب السياسية التي تمثل المؤسسة الأساسية في الأنظمة التي تعتمد النمط الديمقراطي([8]).  

        ولقد شهدت الجماعة الإسلامية منذ الثمانينات بعد انكشاف تنظيمها السري يوم 5 ديسمبر 1980([9]) محاولات عديدة للاندماج في النظام السياسي والتحول إلى حزب سياسي. فعلى اثر إعلان بورقيبة عن مشروع التعددية السياسية في تصريح له في أفريل سنة 1981 أعلن أعضاء "الجماعة الإسلامية" بناء على نتائج الاستفتاء الداخلي التي كانت لصالح التحول إلى حزب سياسي في 6 جوان 1981 عن حل "الجماعة" وتأسيس حزب سياسي أطلق عليه اسم "حركة الاتجاه الإسلامي"، وتقدم على إثره مؤسسوا الحركة في نفس اليوم بطلب لدى السلطة للحصول على ترخيص رسمي ولم يتلقوا أي رد. في نفس السنة تم إلقاء القبض على رئيس الحركة راشد الغنوشي وبعض قيادييها وقدموا للمحاكمة بتهمة الانتماء إلى جمعية غير مرخص لها، وأعادت الحركة الطلب في السنوات 1983 و1985 و1987 دون جدوى. كما أقدمت الحركة خلال فترة الثمانينات على مراجعات هامة في ثوابتها ومواقفها حيث أصبحت الحركة تتبنى الديمقراطية وتعترف بالتعددية السياسية، كما تراجعت عن موقفها الداعي لتطبيق الشريعة، واعترفت بمجلة الأحوال الشخصية إطارا صالحا لتنظيم العلاقات الأسرية ([10]). وهو تطور يرجعه رئيس الحركة راشد الغنوشي في كتابه "من تجربة الحركة الإسلامية في تونس" إلى تفاعلها مع أحداث وطنية كالصراع بين الدولة والحركة النقابية والصراع بين الحركة الإسلامية والتيار اليساري في الجامعة، وأخرى دولية كتأثير الثورة الإيرانية والحركة الإسلامية بالسودان وفكر مالك بن نبي بالجزائر.          

       سنة 1989 تم تغيير اسم الحركة ليصبح "حركة النهضة" وذلك امتثالا لقانون الأحزاب لسنة 1988 الذي يمنع تكوين أحزاب على أسس دينية. وشاركت النهضة في الانتخابات التشريعية لسنة 1989 بقوائم مستقلة. غير أنها لم تحصل على ترخيص للعمل القانوني إلا في سنة 2011 يوم 8 مارس.

       وبالتوازي مع سعيها للتحول إلى حزب سياسي شهدت حركة النهضة في إطار بحثها عن الاعتراف عدة مراجعات في اتجاه "تونسة الحركة"، أي ربطها بالواقع الوطني والتحول إلى حزب سياسي وطني. مثل حدث "الانشقاق الداخلي "(*)، الذي عرفته الجماعة الإسلامية بداية مخاض التونسة([11])، ثم شهدت حركة النهضة في التسعينات مصالحة مع الحركة الفكرية الإصلاحية التونسية التي ظهرت في القرن التاسع عشر واعتمدت التدرجية في ذلك([12]). كانت في البداية مصالحة عامة في بيان الذكرى الخامسة عشر يوم 6 جوان 1996 بلندن، ثم جاء الاعتراف الصريح بتجربة الإصلاح الفكري التونسي في وثيقة "الأرضية الفكرية ونظرية العمل وملامح المشروع"، وتم بيان نقاط التقاطع بينها وبين حركة النهضة.([13]) 

       كما تقلصت مساحات رفض حركة النهضة لمشروع الدولة الوطنية الحديثة. حيث عبرت الحركة في بيان الذكرى الخامسة والعشرين يوم 8 جوان 2006 عن إرادة التواصل مع الدولة الحديثة وعن التخفيف من الصفة الإسلامية وتراجعت نسبيا عن مفهوم النظام الإسلامي والمجتمع. فقد جاء في وثيقة الرؤية الفكرية ونظرية العمل وملامح المشروع الصادرة سنة 2010، أنه "لا يمكن القفز على واقع القطرية وقد ترسخت في القانون الدولي وفي الواقع الاجتماعي وحتى النفسي".([14])

        بعد أحداث ديسمبر 2010 وجانفي 2011  تقدمت حركة النهضة ضمن المشهد السياسي والحزبي التونسي كحزب مدني وقامت بعد تولي الحكم على إثر نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011 بجملة من المراجعات في سبيل الحصول على الاعتراف...  

 



([1]) المديني (توفيق)، تاريخ المعارضة التونسية من النشأة إلى الثورة الأحزاب القومية واليسارية والإسلامية، مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس 2012، ص 275.

([2]) المديني (توفيق)، المرجع السابق، ص 277-287.

([3]) نفس المرجع، ص 287-288.

([4]) العلاني (علية)، "الحركة الإسلامية التونسية ومسألة البحث عن الذات"، الحداد (محمد) وآخرون، من قبضة بن علي إلى ثورة الياسمين الإسلام السياسي في تونس، الطبعة الثالثة، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الإمارات المتحدة 2011، ص 216 - 217.

([5]) الهرماسي (عبد اللطيف)، الحركات الإسلامية في المغرب العربي: عناصر أولية لتحليل مقارن، حماد (مجدي) وآخرون، الحركات الإسلامية والديمقراطية: دراسات في الفكر والممارسة، الطبعة الثانية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2001، ص 304-309.

([6]) العلاني (علية)، المرجع السابق، ص 217 – 218. 

)[7]( Burdeau (Georges), traité de science politique, 2ème édition, Economica, Paris 1968, p274.

([8]) دوفرجيه (موريس)، المؤسسات السياسية والقانون الدستوري الأنظمة السياسية الكبرى، ترجمة سعد (جورج)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 1992، ص 8.

([9]) العمدوني (لطفي)، الحركة الإسلامية في تونس أطوار من النشأة والمحاكمات السياسية الكبرى 1965-1981، ص 109- 110. 

([10]) الهرماسي (عبد اللطيف)، المرجع السابق، نفس الصفحة.

(*) انسحاب مجموعة من عناصر الجماعة الإسلامية في نهاية السبعينات منهم حميدة النيفر وصلاح الدين الجورشي نتيجة لخلاف داخلي حول مبدأ التنظم الحزبي والانخراط في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين والمرجعية الإخوانية للجماعة وأسس فهم النص وتاريخيته. وأطلقت المجموعة على نفسها اسم "الإسلاميون التقدميون".

([11]) موسى (آمال)، حركة النهضة ومخاض التونسة: التباسات الخطاب، الزغل (عبد القادر) وموسى (آمال)، حركة النهضة بين الإخوان والتونسة كيف نفهم تقلبات وتطورات الإسلام السياسي في تونس؟، دار سيراس للنشر، تونس 2014، ص 27.

([12]) نفس المرجع، ص 57 – 59.  

([13]) حركة النهضة (2010): الأرضية الفكرية ونظرية العمل وملامح المشروع، سلسلة قطوف النهضة، 2010، ص 9- 10.

([14]) موسى (آمال)، المرجع السابق، ص 77.

إرسال تعليق

0 تعليقات