عودة على ظروف تولي حركة النهضة الحكم في 2011




عودة على ظروف تولي حركة النهضة الحكم في 2011

 

تولت حركة النهضة الحكم في تونس بعد ثورة شعبية أطاحت بنظام بن علي لإدارة مرحلة انتقال ديمقراطي تؤسس لنظام جديد. وكانت البلاد تواجهها تهديدات داخلية وخارجية لإعاقة تحقيق الانتقال الديمقراطي، حيث شكلت الدولة الوطنية القطرية الحديثة ككيان عاقل لها ثقافة ومنطق يحكمها([1])، والمستفيدين من النظام السابق كأحد عناصر الثورة المضادة، إضافة إلى سوء تقدير الفاعلين السياسيين لطبيعة المرحلة أهم التحديات الداخلية، في حين انقسمت المخاطر الخارجية بين تهديدات إقليمية وأخرى دولية.   

        حركة النهضة التي يتصادم مشروعها مع الدولة القطرية حيث مثل الموقف الرافض للدولة الحديثة عامل ظهور الحركة الإسلامية([2])، والتي اعتبرت "الثورة" مؤشر على" استنفاذ الدولة القطرية لما بعد الاستقلال لآخر رمق من شرعيتها"([3]). وجدت نفسها، مثل بقية حكومات الربيع العربي، تعمل في إطار مؤسسات بطبيعتها "مضادة للثورة " من بين إستراتيجياتها "إفقاد الثورة زخمها، وتحويلها من حركة تغيير جذرية إلى حركة إصلاحية، أو مطلبية، أو عملية تغيير جزئي"([4]). عجزت الحكومة أمام الجهاز البيروقراطي الذي يناهض التغيير من ناحية ويفتقد روح الإنجاز والفاعلية من ناحية أخرى عن تحقيق تغيير جذري يصل إلى مستوى المطالب الشعبية([5]). عجز عكسه تغيير في خطاب حركة النهضة واستراتيجياتها، وعوض تقوية مؤسسات المجتمع ضد الدولة التسلطية تم تكريس دورها المركزي كأداة أساسية للتغير([6]).

        من جهة أخرى فإن عناصر النظام السابق المستفيدين من النظام الذي ثار عليه الناس لن يتخلوا بسهولة عن امتيازاتهم ومواقعهم ولن يقدموا رقابهم طواعية للمحاسبة أو العقاب والتمكين من سلبهم ما سلبوه بدون دولة قوية وبسلطة شرعية([7]).

        غير أن هشاشة الوضع الأمني والاقتصادي وانقسام القوى السياسية بين السلطة والمعارضة، فسح المجال أمام الانتهازيين من النظام القديم بالعودة([8]). نما عدد الأحزاب المحسوبة على  النظام القديم، وعادت رموزه إلى التموقع داخل المشهد السياسي والإعلامي، مستغلين انحياز الإعلام للقوى المناهضة لحركة النهضة للتشكيك في المسار الانتقالي والتحريض على الحكومة وتأجيج الاحتجاجات والإضرابات لإرباك عملها.

        مثل أيضا عدم وعي الفاعلين السياسيين ويقصد بهم - "المجموعات المنظمة في أطر عمل منظم ومهيكل يساهمون عبره في التأثير في المشهد السياسي والاختيارات السياسية"([9]) - بطبيعة المرحلة وجهلهم بماهية الديمقراطية عائقا آخر للمسار الانتقالي. تجلى عدم الوعي بطبيعة المرحلة من خلال انقسام القوى السياسية على إثر انتخابات المجلس الوطني التأسيسي بين قوى مساعدة لجهود الهيئة المنتخبة وقوى مناهضة لجهود الهيئة المنتخبة([10])، أي بين سلطة و معارضة في وقت تحتاج فيه البلاد إلى التوافق والعمل المشترك. كشفت دعوة القوى المعارضة على إثر اغتيال النائب بالمجلس الوطني التأسيسي محمد البراهمي لحل المؤسسات المنتخبة عن جهل القوى العلمانية بماهية الديمقراطية، لتناقضها مع أهم مبادئ الديمقراطية وهو عدم الإطاحة بالمؤسسة المنتخبة بطرق غير شرعية لكونه يلغي العقد الاجتماعي([11]). ساهمت"هشاشة وضعف الثقافة الديمقراطية" لدى العلمانيين من اليساريين والليبراليين في كل من تونس ومصر، في عرقلة عملية التحول الديمقراطي ولئن لم تستطع القوى العلمانية والديمقراطية إعادة إنتاج المثال المصري لاستقلالية الجيش التونسي فإنها تحالفت مع عناصر النظام القديم لإخراج الحكومة المنتخبة)[12] )، وقد مثلت الانتخابات التشريعية التي كان من المفترض أن تقام نهاية سنة 2012 أو بداية سنة 2013 سببا آخر لوقوف الأحزاب السياسية ضد الحكومة الإسلامية([13]).  

        هذه التحديات الداخلية وقع توظيفها من قبل القوى الخارجية المناهضة للتغيير لإجهاض تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس فقد خاضت حركة النهضة ضمن الائتلاف الحاكم مغامرة التغيير في إطار اختلال موازين القوة لغير صالح قوى التغيير([14]).  لن تسمح قوى الهيمنة الرأسمالية من دول و مؤسسات اقتصادية و بنكية بإقامة دولة ديمقراطية تحقق تطلعات الشعوب العربية في القطع مع النظام الرأسمالي الذي ثارت عليه.  

        لقد مثل التخوف الأكبر من إمكانية توظيف الثورات العربية في تنفيذ برنامج الشرق الأوسط الجديد الذي يهدف إلى إعادة تقسيم العالم العربي([15])، فبالرغم من معارضة اليسار الفرنسي والحزب الجمهوري الأمريكي وصول الإسلاميين للسلطة في مختلف دول الربيع العربي وتخوف خبراء أوروبيين يساريين وأمريكيين محافظين من دعم الحركات الإسلامية الإخوانية لحركة حماس الفلسطينية، فإن المؤسسات الرسمية الأوروبية والأمريكية واصلت دعمها للائتلاف الثلاثي في تونس([16])، دعم رأى فيه البعض مجرد " فرصة لإعادة تجديد معقولية التحكم والسيطرة "([17]).

        تغير موقف الولايات المتحدة من الإسلام السياسي على إثر تعرض سفاراتها في دول من الربيع العربي إلى الاعتداء. مثلت أحداث اقتحام السفارة الأمريكية في تونس من قبل مجموعات سلفية بعد عرض فلم رأوا فيه إساءة للرسول بداية توتر العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والحكومة الائتلافية التي تقودها حركة إسلامية([18])، كما ضغطت الدول الأوروبية سياسيا واقتصاديا على حكومة النهضة للقبول بمبادرة الرباعي للحوار الوطني وتمثل الضغط في رفض الدول الأوروبية والمؤسسات المالية الدولية تقديم قروض لحكومة النهضة إضافة إلى دعم خارطة الطريق والضغط لتولي مهدي جمعة رئاسة الحكومة.([19])

        من جهة أخرى شهد المسار الانتقالي في تونس على المستوى الإقليمي جملة من التهديدات مباشرة وغير مباشرة. ورد في تقرير "لمجموعة الأزمات الدولية"(*)، أن الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة ضغطت على النهضة بواسطة بعض المؤسسات البنكية العالمية كالبنك الإفريقي للتنمية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي للتخلي عن الحكم([20]). مثلت كذلك تداعيات الوضع في ليبيا، من غياب الدولة وانتشار السلاح الذي انتقل عبر الحدود إلى الداخل التونسي، تهديدا مباشرا للأمن الوطني وتحقيق الانتقال الديمقراطي([21]). ساهم أيضا عدم وصول المد الثوري إلى دول مركزية في المنطقة العربية، في إرباك عملية التغيير فلم تجد البلاد التونسية نقاط ارتكاز ودعم يمكنها من تحقيق التحول فكان عدم الوعي بضرورة تعميم التجربة على جميع دول المنطقة والتبشير بها أحد عوائق التجربة الديمقراطية في تونس([22]).

       

 



([1]) الورغي (جلال)،  الإسلاميون في الدولة تجربة حركة النهضة التونسية في سياق الدولة الحديثة، الطبعة الأولى، منشورات ضفاف والمركز المغاربي للبحوث والتنمية ودار الأمان، الرباط، ص 45.

([2]) موسى (آمال)، حركة النهضة ومخاض التونسة: التباسات الخطاب، الزغل (عبد القادر) وموسى (آمال)، حركة النهضة بين الإخوان والتونسة كيف نفهم تقلبات وتطورات الإسلام السياسي في تونس؟، دار سيراس للنشر، تونس 2014، ص 67.                                                                                                                                                                                                                                                            

([3]) البيان الختامي للمؤتمر العام  التاسع لحركة النهضة، الموقع الرسمي لحركة النهضة: www.ennahdha.tn.

([4]) نصر (محمد عارف)، "النفق الانتقالي: المسارات المضطربة للثورات في المنطقة العربية"، السياسة الدولية، العدد 188, أفريل 2012 ص 54.

([5]) الدسوقي (أبو بكر)، "الثورات العربية : لماذا سقطت في مصيدة المرحلة الانتقالية ؟"، السياسة الدولية، العدد 188 أفريل 2012 ص 51.  

([6]) الورغي (جلال)، المرجع السابق، ص73- 77.                                                                                                  

([7]) الصغير (عميرة علية)، الثورة والديمقراطية في تونس: العوائق والشروط، الصغير (عميرة علية) وآخرون، في الانتقال الديمقراطي والإصلاح الدستوري في البلدان المغاربية، أعمال وحدة البحث في القانون الدستوري والجبائي المغاربي كلية الحقوق والعلوم السياسية بسوسة، الطبعة الأولى، مجمع الأطرش للكتاب المختص، تونس 2015، ص 15.                                                                                                                                    

([8]) القوماني (محمد)، سردية الثورة: الفرص المهدورة والمواطنة المتعثرة، الإصلاح، ديسمبر 2015، ص 38، الموقع: www.alislahmag.com.

([9]) بالحاج (عبد الرحيم)، قراءة سوسيولوجية لبعض المخاطر المهددة لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، الطبعة الأولى، مجمع الأطرش للكتاب المختص والمغاربية لطباعة وإشهار الكتاب، تونس 2014، ص 51.

([10]) المرجع السابق، ص47.

([11]) المرجع السابق، ص 37.

([12]) الورغي (جلال)، المرجع السابق، ص 65 - 67.

)[13](  Ayeb (Habib), op.cit, p 64.

([14]الورغي (جلال)، المرجع السابق، ص 37.

([15]) الهويريني (وليد بن عبد الله)، عصر الإسلاميين الجدد...رؤية لإبعاد المعركة الفكرية والسياسية في حقبة الثورات العربية، مركز البحوث والدراسات، بدون تاريخ نشر،  ص 20- 44.

([16]) بن يونس (كمال)، الإسلاميون والعلمانيون في تونس من السجون والاضطهاد إلى تحدي حكم البلاد، برق للنشر والتوزيع، تونس 2012، ص 20 - 21.                                                                                                                                      

([17]) الورغي (جلال)، المرجع السابق، ص 38.

([18]) بالضيافي (منذر)، الإسلاميون والحكم تجربة حركة النهضة في تونس بين استحقاقات الثورة ومتطلبات الدولة، الطبعة الأولى،  ورقة للنشر، تونس 2014 ، ص 81 - 90.

([19]) بالضيافي (منذر)، النهضة الهروب من المعبد الإخواني، الطبعة الأولى، مطبعة قرطاج، تونس مارس 2016، ص 136 - 143.

(*) منظمة دولية غير حكومية تأسست سنة 1995. مهمتها إصدار التحاليل والتوصيات حول النزاعات والصراعات المحتملة. تساند مجلس الأمن والمنظمات الإقليمية والدول المانحة والدول المعرضة للخطر بمنع وإدارة وحل النزاعات وإعادة الإعمار.  

([20]) بن يوسف (الطاهر)، حركة النهضة من الحكم .. إلى الحكم، مطبعة فن الطباعة، تونس، ص 103.

([21]) المديني (توفيق)، تاريخ المعارضة التونسية من النشأة إلى الثورة الأحزاب القومية واليسارية والإسلامية، مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس 2012، ص 471.

([22]) الورغي (جلال)، المرجع السابق، ص 26. 

إرسال تعليق

0 تعليقات