دلالات نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة2019 بتونس: اغتراب الفاعلين السياسيين التونسيين

 



دلالات نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة2019 بتونس: اغتراب الفاعلين السياسيين التونسيين*

 


كان من المفروض أن تستفيد الأحزاب السياسية المعارضة من فشل الأحزاب الحاكمة في إدارة شؤون البلاد على امتداد تسع سنوات، وأن تتصدر نتائج الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، إلا أن اعتمادها لخطاب سياسي مخالف لتصورات المجتمع وتطلعاته في بعض المسائل الجوهرية في هوية المجتمع أحدث قطيعة في التواصل بينها وبين مختلف شرائح المجتمع. 

 

وفي حين مثلت مواقف قيس سعيد من جملة من القضايا كالميراث والمثلية وتمثله لموقف المجتمع من هذه القضايا التي يعتبرها (خاصة فئة الشباب) ليست من أولويات المرحلة كما أنها غير مطروحة أساسا في مجتمع متجانس دينيا، السبب المحوري لفوزه بالانتخابات الرئاسية إذا ما تمعنا في جملة برنامجه الانتخابي. فإن مواقف الأحزاب المعارضة المتناقضة مع هذه الرؤى والتي تتبنى مبدأ المساواة والحرية في المطلق وتهدف إلى تكريسه داخل المجتمع دون مراعاة لخصوصية المجتمع الثقافية والدينية أدت إلى عزل هذه الأحزاب مثلما تم عزل بقية الفاعلين السياسيين الذين يتبنون مثل هذه المواقف من إعلام ومجتمع مدني.


ويبدو أن إصرار الأحزاب السياسية اليسارية منها خاصة على مواصلة اعتماد هذه المواقف يعود لحالة الاغتراب التي تعيشها هذه الأحزاب منذ تأسيسها. فتبنيها لأيديولوجيات خارجية ومحاولة إسقاطها على المجتمع التونسي دون إخضاعها للنقد والمراجعة حتى تتناسب مع الثقافة السائدة في المجتمع أدى إلى تجميدها فكريا وعزلها مجتمعيا. فدائما ما يبرز الفاعلين السياسيين اليساريين متعالين عن المجتمع وماقتين له ولمعتقداته وثوابته الثقافية والدينية والساعين إلى هدم هذا المجتمع وإعادة بنائه وفقا لثوابتهم الإيديولوجية، ومن الطبيعي هنا أن يفعل المجتمع طاقته الدفاعية ضد كل تهديد يتعرض له وذلك بتجاهلهم وعزلهم مجتمعيا.


وبعد كل نتائج انتخابات نجد هؤلاء الفاعلين السياسيين مصدومين بالنتائج ويتهمون الطرف المقابل باستعمال المال السياسي والتأثير على الناخبين. في حين كان عليهم فقط إجراء مراجعة ونقد ذاتي بعيدا عن التعالي ونزولا من عالم المثل إلى العالم الحقيقي. بتحليل نتائج انتخابات 89 التي فازت بها حركة النهضة ضد بن علي ونتائج انتخابات 2011 التي فاز بها حزب حركة النهضة أيضا ونتائج انتخابات 2014 التي فاز بها حزب حركة نداء تونس وصولا  للانتخابات الرئاسية الفارطة والتي فاز بها المستقل "قيس سعيد"، نجد أن القاسم المشترك لهذه النتائج هو دفاع المجتمع عن هويته التي تعتبر مهددة في كل مرة من طرف معين. فوز حركة النهضة في 89 و2011 كان دفاعا من المجتمع عن ثوابته الدينية التي رآها مهددة من المد الحداثي المتطرف الذي تبناه بورقيبة ومن بعده بن علي. في حين كان فوز نداء تونس تعبيرا عن خوف مجتمعي عن نمط عيش تقدمي وحداثي بات مهدد من قبل حركة النهضة كحركة دينية. كما أن فوز قيس سعيد بالانتخابات الرئاسية الفارطة هو دفاع من المجتمع عن ثوابته الدينية والثقافية التي يراها مهددة بطريقة أو بأخرى من نخبة مغتربة عن مجتمعها تتبنى تطلعات شعب آخر كالترويج للمثلية الجنسية على أنها حرية شخصية وتبني المساواة المطلقة بين الجنسين.

يستنتج مما سبق أن المجتمع التونسي في كل محطة انتخابية يبحث عن من يتمثل هويته بتناقضاتها. أي أن المجتمع يحاول في كل مرة انتخاب من يشبهه ثقافيا ودينيا. لكنه في كل مرة مع الأسف يجد نفسه متهما من نخبة معينة مرة بالتطرف الديني ومرة بالانحلال الأخلاقي وحتى بالبلاهة وعدم الفقه في السياسة. غير أنه لو كان المجتمع التونسي متطرف دينيا لأبقى على حركة النهضة في الحكم أو لأنتخب أكثر الأحزاب تطرفا ولو كان مجتمع منبت أخلاقيا لانتخب من يدعو إلى المثلية وغيرها من الأفكار المتطرفة. لكن الفاعلين السياسيين من الجانبين لم يفهموا بعد طبيعة المجتمع التونسي الذي يريدون أن يحكموه. ففي حين أن المجتمع قد حسم مسألة الهوية بتبني الوسطية ويريد الاهتمام بالجانب الاقتصادي ويتطلع إلى العيش برفاهية. فإن الفاعلين السياسيين من أحزاب وإعلام ومجتمع مدني تعيده دائما وفي كل محطة انتخابية إلى صراع الهوية باعتماد كل من الجانبين اليميني واليساري لخطاب سياسي متطرف وبعيد عن واقع المجتمع وتطلعاته.

 

 

 

 



*  نشر سابقا بتاريخ 19 أكتوبر 2019.

إرسال تعليق

0 تعليقات